فصل: تفسير الآيات (254- 255):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (252- 253):

{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}
{تلك آيات الله} يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وهي التابوت وإهلاك الجبابرة على يد صبي {نتلوها عليك بالحق} أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم {وإنك لمن المرسلين} يعني حيث تخبر بهذه الأخبار العجيبة والقصص القديمة من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار فدل ذلك على أنك من المرسلين وأن الذي تخبر به وحي من الله تعالى. قوله عز وجل: {تلك الرسل} يعني جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة {فضلنا بعضهم على بعض} فيه دليل على زوال الشبهة لمن أوجب التسوية بين الأنبياء في الفضيلة لاستوائهم في القيام بالرسالة وأجمعت الأمة على أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض وأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم لعموم رسالته وهو قوله تعالى: {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً} {منهم} أي من الرسل {من كلم الله} أي كلمة الله وهو موسى عليه السلام {ورفع بعضهم درجات} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم رفع الله منصبه ومرتبته على كافة سائر الأنبياء بما فضله عليهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات فما أوتي نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلا أوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء بآيات ومعجزات أخر مثل انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع الذي حن عند مفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم له شاهدة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من الآيات والمعجزات التي لا تحصى كثرة، وأعظمها وأظهرها معجزة وآية القرآن العظيم الذي عجز أهل الأرض عن معارضته والإتيان بمثله فهو معجزة باقية إلي يوم القيامة.
(ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي من الأنبياء إلاّ وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة».
(ق) عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قلبي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث الى قومه خاصة وبعثت للناس إلى الناس عامة».
(م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت الى الخلائق كافة وختم بي النبيون» فإن قلت لم ذكره على سبيل الرمز والإشارة ولم يصرح باسمه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: في هذا الإبهام والرمز من تفخيم فضله وإعلاء قدره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى لما فيه من الشهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه ولا يلتبس فهو كما يقول الرجل وقد فعل شيئاً فعله بعضكم أو أحدكم ويريد نفسه فيكون أفخم من التصريح به كما سئل الخطيئة: من أشعر الناس؟ قال زهير والنابغة. ثم قال لو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه وقوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} يعني الحدد والأدلة الباهرة والمعجزات على نبوته مثل إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى {وأيدناه بروح القدس} أي وقويناه بجبريل عليه السلام فكان معه إلى أن رفعه إلى عنان السماء السابعة. فإن قلت لم خص موسى وعيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء. قلت لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله تعالى وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية عظيمة وتأييد عيسى بروح القدس آية عظيمة أيضاً فلما أوتي موسى وعيسى من الآيات العظيمة خصا بالذكر في باب التفضيل فعلى هذا كل من كان من الأنبياء أعظم آيات وأكثر معجزات كان أفضل ولهذا أحرز نبينا صلى الله عليه وسلم قصبات السبق في الفضل لأنه أعظم الأنبياء آيات وأكثرهم معجزات فهو أفضلهم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين {ولو شاء الله} أي ولو أراد الله وأصل المشيئة الإرادة {ما اقتتل الذين من بعدهم} يعني بعد الرسل الذين وصفهم الله {من بعد ما جاءتهم البينات} أي الدلالات الواضحات من الله بما فيه مزدجر لمن هداه الله تعالى ووفقه {ولكن اختلفوا} يعني اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل {فمنهم من آمن} أي ثبت على إيمانه بالله ورسوله بفضل الله {ومنهم من كفر} أي ومنهم من تعمد الكفر بعد قيام الحجة وبعثة الرسل {ولو شاء الله ما اقتتلوا} أي ولو أراد الله أن يحجزهم عن الاقتتال والاختلاف لحجزهم عن ذلك {ولكن الله يفعل ما يريد} يعني أنه تعالى يوفق من يشاء لطاعته والإيمان به فضلاً منه ورحمة ويخذل من يشاء عدلاً منه لا اعتراض عليه في ملكه وفعله. سأل رجل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن القدر فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه.

.تفسير الآيات (254- 255):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} قيل أراد به الزكاة الواجبة وقيل أراد به صدقة التطوع والإنقاق في وجوه الخير {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه} أي لا فدية وإنما سماه بيعاً لأن الفداء شراء النفس من الهلاك، والمعنى قدموا لأنفسكم اليوم من أموالكم من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فيكسب الإنسان ما يفتدي به من العذاب {ولا خلة} أي ولا مودة ولا صداقة {ولا شفاعة} وظاهر هذا يقتضي نفي الخلة والشفاعة وقد دلت النصوص على ثبوت المودة والشفاعة، بين المؤمنين فيكون هذا عاماً مخصوصاً {والكافرون هم الظالمون} لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل: {الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم}.
فصل في فضل هذه الآية الكريمة:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» أخرجه الترمذي. قوله: إن لكل شيء سناماً. سنام كل شيء أعلاء تشبيهاً بسنام البعير والمراد منه تعظيم هذه السورة والسيد الفاضل في قومه والشريف والكريم وأصله من ساد يسود وقوله هي سيدة أي القرآن أفضله.
(م) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك اعظم؟ قلت: {الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم} فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر» عن واثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} أخرجه أبو داود. وقال العلماء: إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم آية في القرآن لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقومية والملك والقدرة والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات، وذلك لأن الله تعالى أعظم مذكور فما كان ذكراً له من توحيد وتعظيم كان أعظم الأذكار وفي هذا الحديث حجة لمن يقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب الله المنزلة، ومنع من جواز تفضيل بعض القرآن على بعض جماعة منهم أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني قالا لأن تفضيل بعضه على بعض يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله عز وجل نقص وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق لفظ أعظم وافضل على بعض الآيات أو السور بمعنى عظيم وفاضل، ومن أجاز تفضيل بعض القرآن على بعض من العلماء والمتكلمين قالوا: هذا التفضيل راجع إلى عظم أجر القارئ أو جزيل ثوابه وقول: إن هذه الاية أو هذه السورة أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر وهذا هو المختار وهو معنى الحديث والله أعلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي حفظ ليلته تلك حتى يصبح» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. وأما التفسير فقوله عز وجل: {الله لا إله إلا هو} نفي الإلهية عن كل ما سواه وثبت الإلهية له سبحانه وتعالى فهو كقولك لا كريم إلاّ زيد فإنه أبلغ من قولك زيد كريم الحي يعني الباقي على الأبد الدائم بلا زال، الحي في صفة الله تعالى وهو الذي لم يزل موجوداً وبالحياة موصوفاً لم تحدث له الحياة بعد موت ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواء يعتريهم الموت والعدم فكل شيء هالك إلاّ وجهه سبحانه وتعالى. القيوم قال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه تعالى قائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه وقيل وهو القائم الدائم بلا زوال الموجود الذي يمتنع عليه التغير وقيل هو القائم على كل نفس بما كسبت والقيوم فيعول من القيام وهو نعت للقائم على الشيء {لا تأخذه سنة ولا نوم} السنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى نعاساً وهو النوم الخفيف والوسنان بين النائم واليقظان والنوم هو الثقل المزيل للعقل والقوة. وقيل: السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فالسنة هي أول النوم والنوم هو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء والمعنى لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم لأن النوم والسهو والغفلة محال على الله تعالى لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم وذلك نقص وآفة والله تعالى منزه عن النقص والآفات، وأن ذلك تغير والله تعالى منزه عن التغير،.
(م) عن أبي موسى الأشعري قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بخمس كلمات فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور» وفي رواية: «النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
شرح ما يتعلق بلفظ هذا الحديث منقول من شرح مسلم للشيخ محيي الدين النووي قوله صلى الله صلى عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» فمعناه الإخبار أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه لأن النوم انغمار وغلبة على العقل يسق به الإحساس والله تعالى منزه عن ذلك وقوله: «يخفض القسط ويرفعه» أراد بالقسط الميزان الذي يقع به العدل ومعناه أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن فيه من أعمال العباد المرتفعة إليه وقيل أراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ومعنى يخفض يقبض ويضيق على من يشاء ويرفعه أي يوسعه على من يشاء وقوله: «يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار» يعني أن الحفظة من الملائكة يصعدون بأعمال العباد في الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في اول الليل قوله: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» سبحات بصم السين المهملة والباء الموحدة تحت وبضم التاء في آخره جمع سبحة، ومعنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه والحجاب أصله في اللغة المنع وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة والله تعالى منزه عن الجسم والحد، فالمراد به هنا الشيء المانع من الرؤية، وسمي ذلك الشيء المانع نوراً أو ناراً لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة، والمراد بالوجه الذات، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة من في قوله من خلقه لبيان الجنس لا للتبعيض ومعنى الحديث لو زال المانع وهو الحجاب المسمى نوراً أو ناراً وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته هذا آخر كلام للشيخ على هذا الحديث والله أعلم.
وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} إن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله تعالى؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثاً فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فامسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما فجعل ينعس وينتبه وهما في يده في كل يد واحدة حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر إنما هو مثل ضربة الله تعالى له يقول فكذلك السموات والأرض، ورواه عن أبي هريرة مرفوعاً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله» وذكر نحو حديث ابن عباس قال بعض العلماء: إن صح هذا الحديث فيحمل على أن هذا السؤال كان من جهال قوم موسى كطلب الرؤية من موسى لأن الأنبياء عليهم السلام هم أعلم بالله من غيرهم فلا يجوز أن ينسب لموسى مثل هذا السؤال والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} يعني أن الله تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم وهم عبيده وفي ملكه.
فإن قلت لم قال له ما في السموات ولم يقل من في السموات؟ قلت: لما كان المراد إضافة كل ما سواه إليه من الخلق والملك وكان الغالب فيهم من لا يعقل أجرى الغالب مجرى لكل فعبر عنه بلفظ ما {من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه} أي بأمره وهذا استفهام إنكاري والمعنى لا يشفع عنده أحد إلاّ بأمره وإرادته، وذاك لأن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم فأخبر أنه لا شفاعة لأحد عنده إلاّ ما استثناه بقوله: {إلاّ بإذنه} يريد بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} يعني ما بين أيديهم من الدنيا وما خلفهم من الآخرة وقيل بعكسه لأنهم يقدمون على الآخرة ويخلفون الدنيا وراء ظهورهم وقيل يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم وقيل يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما هم فاعلوه والمقصود من هذا أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه {ولا يحيطون بشيء من علمه} يقال: أحاط بالشيء إذا علمه وهو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وحقيقته، فإذا علمه ووقف عليه وجمعه في قلبه فقد أحاط به والمراد بالعلم المعلوم والمعنى أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى: {إلاّ بما شاء} يعني أن يطلعهم عليه وهم من الأنبياء والرسل ليكون ما يطلعهم عليه من علم غيبه دليلاً على نبوتهم كما قال تعالى: {فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول} {وسع كرسيه السموات والأرض} يقال فلان وسع الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وأصل الكرسي في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي في العرف اسم لما يقعد عليه سمي به لترك خشباته بعضها على بعض. واختلفوا في المراد بالكرسي هنا على أربعة اقوال: أحدها أن الكرسي هو العرش نفسه قال الحسن لأن العرش والكرسي اسم للسرير الذي يصح التمكن عليه. القول الثاني أن الكرسي غير العرش وهو أمامه وهو فوق السموات السبع ودون العرش قال السدي إن السموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة والكرسي في جنب العرش قال السدي إن السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقيل إن كل قائمة من قوائم الكرسي طولها مثل السموات والارض وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم على الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى: ملك على صورة أبي البشر آدم هو يسأل الرزق والمطر لبني آدم من السنة إلى السنة، وملك على صورة النسر وهو يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة، وملك على صورة الثور وهو يسأل الرزق للانعام من السنة إلى السنة وملك على صورة السبع وهو يسأل الرزق للوحوش من السنة إلى السنة.
وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترقت الكرسي من نور حملة العرش. القول الثالث: إن الكرسي هو الاسم الأعظم لأن العلم يعتمد عليه. كما أن الكرسي يعتمد عليه قال ابن عباس كرسيه علمه. القول الرابع: المراد بالكرسي الملك والسلطان والقدرة لأن الكرسي موضع الملك والسلطان فلا يبعد أن يكنى عن الملك بالكرسي على سبيل المجاز {ولا يؤوده} أي لا يثقله لوا يجهده ولا يشق عليه {حفظهما} أي حفظ السموات والأرض {وهو العلي} أي الرفيع فوق خلقه الذي ليس فوقه شيء فيما يجب له أن يوصف به من معاني الجلال والكمال فهو العلي بالإطلاق المتعالي عن الأشباه والأنداد والأضداد وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد وقيل معنى العلو في صفة الله تعالى منقول إلى اقتداره وقهره واستحقاق صفات المدح جميعها على كل وجه وقيل معناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين {العظيم} يعني أنه ذو العظمة والكبرياء الذي لا شيء أعظم منه. وقال ابن عباس: العظيم الذي قد كمل في عظمته وقيل العظيم هو ذو العظمة والجلال والكمال وهو في صفة الله تعالى ينصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.